المطنقر- من حياة القرية إلى شيخة على الذات.

المؤلف: علي بن محمد الرباعي11.10.2025
المطنقر- من حياة القرية إلى شيخة على الذات.

في غياهب إحدى القرى الوادعة، بزغ نجم (المطنقر)، وهو شابٌ يافعٌ يصارع قسوة الحياة. الأب دائمًا ما كان يصب جام غضبه عليه، والجدّ لا يفتأ أن يدفعه بعيدًا، أما الأم فكانت كلماتها جارحةً كالسياط. وإذا علا صياحهم، واشتدّت منادات الجدّ، يسأله بلهجةٍ آمرةٍ: "لمَ تُحدث ثقوبًا في مخزن الغلال؟ أما تدري أن الحبة على الحبة تُملأ الكيلة، وأن القطرة على القطرة تُشكل السيل؟". ثم تغلب عليه الشفقة في رفقٍ، فيقول: "اعمل بجدٍّ، وأنا سندك، وانتبه لعمل اللوز بعد أن تشبع من تقشيره". فيجيب (المطنقر) بتذمرٍ: "الكل يدعوني، فكيف لي أن ألبي النداء؟".

كان يومًا فريدًا ومبهجًا حين يعود خاله من رحلة سفر، فيدعوه، ويوقد إبريق الشاي، ويشغل جهاز التسجيل العتيق. كان (المطنقر) ينبهر بحركة الأسطوانة الدائرية، والإبرة التي تعزف عليها، لينطلق من ذلك المجسم صوتٌ عذبٌ يأخذه إلى عالمٍ من الخيال والبهجة. وذات ليلة، مدّ له الخال سيجارةً، وبينما هو يدخنها، صادف مرور أبيه الذي كان يقضي حاجته في الخلاء، فتملكه الرعب وثبت في مكانه. قام الأب بانتزاع السيجارة وحشوها في أنفه، تاركًا مرارة في قلبه. فذهب (المطنقر) ليشكو لجده، فردّ الجدّ العجوز: "ليته أشكم، فلا ينفع المرء إلا جيبٌ مليء، وبطنٌ شبعان، ورأسٌ سليم. وأنت لا أنت من المعزى، ولا أنت من الضأن!".

أقسم (المطنقر) لينتقمن، واسترضى خاله حتى وافق على اصطحابه معه في رحلة سفر، قبل أن يظهر شاربه. ركبوا جميعًا في شاحنةٍ مع ثلاثة رجالٍ آخرين، متجهين إلى القوز، ومن هناك استأجروا سفينةً شراعيةً متجهةً إلى ميناءٍ أفريقي. أوصاهم الخال بالذهاب إلى (شيّال) يعرفه، وهو سيدبر لهم أمورهم. امتثلوا لنصيحته، ووجد لهم عملًا كحمالين في الميناء. لم يمض شهرٌ على عملهم، حتى هرب رفاقه، بسبب الحمى والملاريا. أما (المطنقر) فقد صبر وكافح، وعندما سمع أن العرافة انتقلت إلى بيتهم، وأن جده قد صار الآمر الناهي، اشتاق إلى منصب الشيخ، فعاد بعد ثماني سنواتٍ وقد اكتسب خبرةً وثروةً.

عاد إلى قريته محملًا بالهدايا الثمينة، وأكياس البن الهرري، وأبهر أهل قريته بخبرته الواسعة في أمور الزراعة، والنسيج، وعلاج بعض الأمراض. وأقام له جده وليمةً، دعا إليها أهل القرية وبعض الأصدقاء من القرى المجاورة، وتولى الصغار مهمة حمل أواني المياه بين الضيوف، وحمل أباريق الغسيل. وأكثر ما كان يسعدهم بعد أن يصبّوا الماء على أيدي المُكثرين بالخير، هو سماع كبار السنّ يقولون: "غفر الله لك ولوالديك، ولمن غسّل بين يديك". كانوا يصبّون الماء على أيديهم، وأعينهم مثبتة على الأطباق، يتمنون الحصول على العشاء.

فرح (المطنقر) عندما رأى خاتم العرافة في إصبع جده، وبدأت أطراف أصابعه تشتعل رغبةً فيه. زوّجه الجدّ بفتاةٍ من عائلةٍ ثرية، وقام ببناء منزلٍ مرتفعٍ من الطوب فوق المنزل الحجري، وخصص له ولزوجته حمامًا، واشترى فراشًا وثيرة ليناما عليه. وبعد مرور عام على الزواج، عاب الجد على العروس، وقال للمطنقر: "لا تكن كذاك الذي إذا ركب الجمل دنّق رأسه. أظن أن الأفارقة قد سحروك، وإلاّ لكانت زوجتك كالمرأة المطيعة". فردّ (المطنقر) قائلًا: "أما من ناحية الإنجاب، فلك الله كما الفراص، ولكن إذا كان في النقر داء، فكيف يثور الغبار يا جدّ؟". فدعا له الجد: "الله يطعمك منها".

تقدّم العمر بالجدة، فجاء الفقيه لزيارتها وتفقدها، فسألها: "عرفتني يا رفدة؟". ففتحت عينيها، ورفعت رأسها عن الوسادة، وقالت: "كيف لا أعرفك، والله لقد نشأت وشبت وشاخت، ما نسيت يوم دلّكت ظهري تحت المشمشة، ونحن نحمي محصول الخريف". فردّ الفقيه عمامته على وجهه وخرج مرددًا: "الله يحسن لنا ولك الختام". لحقه المطنقر، وهمس في أذنه: "أثرك لسلوس من زمان".

أقسم (المطنقر) للمؤذن، أنه عندما يصبح عريفة، سيوقف كل واحد من جماعته عند حدود محارمه، وأضاف: "إن كان جدي وأبي لم يربوكم، ولم يهددوكم إلا بالجنابي، فأنا سأطعن وأجرجر". فقال المؤذن: "يا الله في الحيا، بعد جدك يعيش لين تشوف بياض عارضك، وأبوك ما يموت إلا وظهرك محني!". فدفعه المطنقر بقدمه في جنبه، وقال: "قم اسر، الله لا يسريك في خير يا حسودي".

فسمعهم الفقيه، وهو فوق كومة التمر التي كان يحشوها، فعدّل المؤذن من قفاته، وقال: "يا ديكان، لا تكسّر مجاديفه، خلّه يتحلّم بالعرافة لين تتناثر قرونه، وش عليك من زحمة". فالتفت إليه المطنقر، وقال: "ما تخاف الله يا المقرفط، الذي أطيب منه بعد أحيا وتبغاه يرثهم؟". فقال الفقيه: "معه جنيهات وفرانسة، ونحن نصير المؤتمنين، وسيقصّر علينا حتى نثري، ونحمل من بعره فوق ظهره، غنّ له باللحن الذي يعجبه وش انت خسران".

مات الجد، وغادر القرية نصف الجماعة، سافروا للعمل في المدن، وبدأ عدد القرويين يتناقص، والمطنقر يترقب متى تحين منيّة الشيخ، وكل يوم يتهدد ويتوعّد في الصباح والمساء.

فتحت الجامعات، وكل رجل أخذ أولاده، وتوكلوا على الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ويوم مات أبوه، أول ما استحب خاتم العرافة من إصبعه، وعزّاه الفقيه والمؤذن، ودفنوا المرحوم معه، وقالوا: "ترى فيك الذمة، أولادنا استلحقونا"، فطلع فوق البيت، ودرّج نظره يمينًا ويسارًا، وصار يهرج نفسه: "يوم صرت عريفة ما عاد في القرية ولا برطم، إلا أنا وحرمتي"، فسمعها تدعوه: "أنزل تقهو يا عريفة"، قال: "لو أسمعك تذكرين عريفة على لسانك ما تبقين على ذمتي ساعة، عريفة على من؟ على نفسي".

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة